مصر كلها في الحمام
حينما يأتي الكبت ... أمد له يدي... أصافحه , اقبله بين عينيه , أضمه في صدري ...أتنهد , تتبدل مشاعري تزداد دقات قلبي , اشعر باحمرار في وجهي , أضع يدي علي شعره ,أحاول أن أتفحص قسمات وجهه , يجذبني جمال عينيه , يبدو في العشرين من عمره , ابحث عن فرشاتي والواني لم أجدهما , ابلل إصبعي من فمي , بدأت أبدد في قسمات وجهه , وضعت خطوط كثيفة , تجاعيد , البشرة الآن أغمق , الشعر أصبح ابيض , أصبح علي مشارف الستين من عمره ... لم يلتفت إلي ما فعلته , ازداد شعوره بالأمان وضعت كلتا يداي علي رأسه ,سحبتهما برفق حتى تملكت من رقبته , بدأت أضغط بشدة علي عنقه , يختنق ,يحاول التخلص , يقاوم تزداد قبضتي .........استسلم ....فارق الحياة ...استرحت منه لكن بعد عناء ,أخرجت كبتي , اقتله دون أن يشعر بي احد , ألوث يدي بدمه القذر , لكني لا أحب أن أكون قاتلا , اشعر بالذنب , عقدة الذنب تنغص علي حياتي , ماذا لو رآني احد من أولاده أظنه يقتلني , ماذا لو رأتني الشرطة ربما اسجن بقية حياتي , أو اعدم , لابد و أن يكون هناك حل .
سألت أصدقائي , جيراني , سرت في الشارع أسأل المارة , نزلت شارع جامعة الدول العربية ....أمام فرغلي .... جالس في سيارته , فاتح شبك سيارته ....وبكل فضول مني أدخلت رأسي داخل سيارته وسألته ( لما بتكون مكبوت بتعمل ايه ) ... دفعني إلي الوراء أدار محرك سيارته !!!!!!!!!!!!
سألت أحد أصدقائي فقال لي " أكتم في نفسي ولا أفعل شيء "
فقلت : لكنك تفعل شيء.....
نظر إلي في استغراب ودهشة بدت علي وجه وقال ( إيه )
فقلت : ( تطق تموت .....) وتستريح ويستريح الآخرون منك
قال لي أخر : ادخل إلي حجرتي ....اصرخ بصوت عالي حتى يكاد يغشي علي
قلت له في سخرية لا حتى يغشي عليك بل حتى تجد نفسك أمام مجموعة من الأشخاص بطول الباب تكاد تصطدم رؤوسهم بسقف الحجرة , ويلبسون ابيض في ابيض , وخير اللهم اجعله خير وتجد نفسك في " السرايا الصفرة " أقصد مستشفي الأمراض العقلية .
نصحني أحد إخوانا إياهم !!!! وقال
" لو عايز تخرج الكبت اللي جواك ....امشي في مظاهرة "
قلت : وبعدين
قال : تستريح
قلت : نعم أستريح واضع يدي تحت رأسي وأتمدد علي البرش وانتظر أخي ليحضر لي عيش وحلوة
مرت الأيام والشهور و ازداد الكبت بداخلي ومازلت ابحث عن طريقة ...لكن دون جدوى!!!
كنا في فصل الصيف , دعاني أحد زملائي لعقد قرآنه بمسجد النور بالعباسية , بعد إتمام العقد سارعت لتهنئة العروس قبل أن ادخل في صراع علي تقبيل العروس قد افقد فيه الكرفت أو القميص أو تصادف وأعود إلي المنزل دون حذائي .
دوي صوت المؤذن في القاعة ... وشيء من الهدوء , دخلت المسجد لأداء صلاة العشاء توجهت إلي دورة المياه حتى أتوضأ , لفت انتباهي شيء ...ما ذا يفعلون ما هذا , هكذا يعبرون عن انفعالاتهم ويفرغون كبتهم , في سرية تامة , يفعلون مثلما يفعل المراهقون , هنا ...فقط !!!!!!
خرجت بسرعة من المسجد , دخلت دورة مياه مسجد آخر وآخر , دخلت كل دورات المياه العامة والمشهورة حتى أتأكد , فكل المكبوتين في مصر يفعلون ذلك.
تمسك بقلمك , تقف داخل الحمام , الباب من أمامك , تأكد تماما أن الشباك مغلق تماما, حاول أن تستجمع أفكارك, الوقت مناسب الآن حتى تفرغ كبتك بدلا من تقتله فيقبضون عليك بتهمة القتل مع سبق الإصرار والترصد , اكتب ما شئت علي الجدران , امدح , اشتم , عبر عن وجهة نظرك ......
حدثتني نفسي فقالت : ما ذنب هذه الجدران التي تئن من انفعالات المكبوتين
قلت : قدرها ...قسمة ونصيب !!! بين الجدار والمكبوت أو ربما تكون شاهد يوم القيامة فتنطق كما ستنطق الأيدي والأرجل .
ويحك أنت أمارة بالسوء ...دعني الآن فربما لا يسنح لي القدر أن اكتب انفعالاتي مرة ثانية .
التفت إلي الجدار ...أمامي ....كلمات ...شاخبيط
لو ضمت الكلمات في سطور لكانت أمهات الكتب
ولو حددت الخطوط المتداخلة والعبارات المقلوبة لكانت "الجورنيكا " لبيكاسو , أو أي حاجة حلو لفان جوخ, أو تحركت دار الوثائق المصرية لتسجل وتحتفظ بهذه النسخ من الجدران الفريدة , فهذه رسالة من طفل مصري إلي من .....ربما سيسجلها التاريخ أو يحدث نزاع عليها بين دار الوثائق ودار المخطوطات , دون أن يقرءوا ما فيها .....فالجدران ملئ بذخائر للمكبوتين فمنها ,
( رسالة من طفل مصري إلي ماما سوزان .....)
ماما الإمبراطورة سوزان ....قولي لمبارك ....أنا جعان ..أنا عريان , أنا مرضان ...أنا مش عايز مكتبة وكتاب , هاقراء إيه والعيشة عذاب , خلتوا اللحمة حلم بعيد , وكوبية اللبن حلم سراب , مش عايز أوبرا أو مزيكا , عايز بيضة ولو لغراب , كل يوم هنا مؤتمر وهنا مشروع والعاطلين أفواج أفواج .....عايز أعيش حر في بلدي , من غير طوارئ ولا سجان , عايز ألاقي القوت في بلادي بكل كرامة وكل أمان ...!!!!!!!!!!!!)
وأخر مكبوت يحاول أن يستنكر محاولة إخراج هموم المصريين في الحمام فيقول ( شعب جبان لا يقول الحق الإ في الحمام , هل بلغ بنا الخوف أن نعبر عن أرائنا في الحمام )
وقد وجد الإسلاميون في جدران الحمامات متسعا من الحرية حتى يعبروا عن أفكارهم ويخرجون كبتهم ....فحملت الجدران بعض الشعارات المعبرة عن فكر جماعة الإخوان المسلمين
إخواني مكبوت يقول( أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم , تقم علي أرضكم ) ( الإخوان أمل الدنيا في كل مكان ) ( اشهد , اشهد يا زمان علي حب الناس للإخوان ) .
وحملات بعض الجدران أراء الجماعات الإسلامية المناهضة لفكر جماعة الإخوان المسلمين وخاصة التيار السلفي , سلفي مكبوت يقول ( الإخوان طلاب مناصب وسياسة , لا دعاة دين وإصلاح )
وأخر مكبوت يمدح في الفكر السلفي فيقول
( السلفية هي جماعة المسلمين ، يا ناس اتبعوا أبو إسحاق ومحمد حسان وحسين يعقوب ) , فيرد عليه أخر علي نفس الجدار ويقول ( اللي جعلهم علماء ودعاة أمثالك الجهلة اللي ما يعرفوش حاجة وفاهمين كل حاجة علي مزجهم ) فيؤيده أخر ويقول ( الحركة الوهابية جعلت مصر مقبرة للدين بسبب أفكار ابن تيمية ) وأخر يرد عليهم فيقول ( سيستمر الغلاء إذا لم تتحجب النساء )
ولم يقتصر الأمر علي ذلك فقد امتد لمناقشة بعض القضايا مثل الختان والتماثيل والمسلسلات ....الخ
وحملت بعض الجدران بعض التهكمات علي الحكومة المصرية شخص مكبوت يتهكم علي رئيس الوزراء الأسبق عاطف عبيد فبقول ( عبيدوبيس .....اله الفقر عند المصرين في القرن العشرين )
ومكبوت أخر يتهكم علي حكومة نظيف ويقول ( شيف , شيف , دكتور نظيف ...دمه خفيف .....بس كفيف ....والشعب المصري مشكلته رغيف ) .
وكان لأحزاب المعرضة نصيبا من إخراج كبت أبنائها علي جدران الحمامات , خاصة وقت إجراء انتخابات الرئاسة .
معارض مكبوت يقول ( أيمن نور عميل أمريكي ) وآخرون يقولون ( الأحزاب ديكورات من صنع الحكومة ....بلا أحزاب بلا بتاع الانتخابات محسومة يا أغبية ) .
أعجبتني الفكرة .... دخلت الحمام , أمسكت بيدي قلم , عبر عن وجهة نظري , شتمت كل اللذين لا أستطيع أن أقول لهم ذلك في وجههم , مدحت ...ارتحت , خرجت الكبت , دون شعور بالذنب تجاه الكبت .
بعد فترة عاودني شعور بالكبت , كنت مشغول جدا في عملي , ومسؤولياتي , لا وقت لأذهب إلي دورة مياه عامة , دخلت حمام منزلي , وحتى لا أتعرض للطرد علي يدي أسرتي , واسكن الرصيف , أخذت ورقة بيضاء وثبتها علي حائط الحمام , بدأت اشخبط , اشتم , امدح , لكن !!!! لم أشعر بأي شيء , شحنة الكبت مازالت بداخلي ( يا أخي دورات المياه العامة سرها باتع ) .
قررت أن أذهب إلي أحد دورات المياه العامة , ولكن لأن أخرب في المال العام , فجهزت لوحة كبيرة من الخشب مقاس 150سم في 200سم , قمت بشد فرخ كانسون ابيض عليها بواسطة الماء وثبت الورق علي الخشب بدبابيس مكتب ( شغل فنانين بأه يا عم ) وانتظرت حتى جفت , حملتها وحملت الواني وفراشاتي , الألوان ربما تنتهي قبل ، أنجز لوحتي ...تعاطيت كمية كبيرة من الألوان ...لكن لا يكفي , وضعتها في سندوتشات ...سندوتشات ألوان , أخذت معي معطر برائحة الورد, 3) MP) بعض الأغاني المحببة إلي قلبي , توجهت فورا إلي دورة مياه عامة لأحد المساجد الكبيرة بالقاهرة , حاولت أن أدخل أمتعتي أثناء الصلاة حتى لا يراني أحد , وحتى لو رآني أحد , ما ذا سيقولون , واحد مكبوت , أظن أنهم متعودون علي هذا المنظر, حاولت أضع لوحتي داخل الحمام لكنها كانت أكبر من الحمام .....مشكلة ماذا سأفعل !!!!!!
تذكرت مشهد الفنان " نبيل الحلفاوي " في فيلم الطريق إلي إيلات" ....وفي غمض البصر انحلت المشكلة !!!!!
( شارب من نيلها )
قمت برش كمية كبيرة من المعطر داخل الحمام , تقريبا عشرة زجاجات .....
أغلقت الباب , تأكدت أنه لا أحد يراني ,المكان مظلم لدرجة أني لا أري يدي , أكلت سندوتش ع الماشي ( الجوع كافر ) , وضعت السماعات في أذاني ...سمعت عبد الحليم يقول , ( احلف بسماها , وبتربها ......) وضعت بعض الخطوط والألوان والانفعالات ,حولت الشتائم إلي أيقونات فنية , شعرت أني أنحت في صخر لا أضع لونا علي الورق وفي زحمة انفعالاتي قاطعني عبد الحليم بصوت قوي ( أموت ...أعيش ...ميهمنيشي )
ازدادت اضطرابات الواني , الأحمر والأزرق والبنفسجي والوردي والبني ....الألوان متداخلة مثل الإحساس بداخلي ,انتابني شعور بالفخر والرسوخ , فحاولت أن ارسم الأهرامات , برج القاهرة , عمارة يعقوبيان , أحسست بالدفء , قاطع إحساسي صوت شيرين( كتير بنعشق ولا بنقول وكتير بنعشق ولا بنطول ) , أخذت فرشاتي تتأرجح بين يدي ...من الواضح انها أرهقت من شدة انفعالاتي , فهي أول من يشعر بي , ارسم بها دموعي وارسم بها العرق وارسم بها الحنين لو مرة في عروقي اختنق , قاطعني صوت عبد الحليم مرة أخري وهو يقول ( عدا النهار ) ظننت أن اليوم انتهي ...لكني فوجئت أن حبيس هذا المكان منذ ثلاثة أيام , لا يهم ...المهم أنني فرغت كبتي وأظن إني بصدد عمل فني , فمنذ فترة طويلة لم أسرح مع الألوان بهذه الصورة , وفي ظلام المكان لم أري ما وضعته علي لوحتي , فتحت باب الحمام , حاولت أن أخرج لكني لم أتحمل شدة الضوء , لملمت الواني وفرشاتي وبالته الألوان , أضع كل شيء في حقيبتي , حتى الثلاث أيام الماضي , حتى رائحة المعطر أحاول أن أسحبها جاهدا من الهواء وأضعها في حقيبتي , كل الناس تنظر إلي , لم انتبه إلي لوحاتي ....!!!!
يا رب ما هذا أنها لم تكن أفكاري لم تكن الواني ....ملعون هذا الكبت لقد خانني ....نعم خانني . .....اللوحة كلها بلون واحد
اللون الأزرق
أيها اللون الأحمق الخائن
أنت عميل له
ما هذا راقصة ....فلاح ...نخيل ....وخيول ...وقوارب تسرح في النيل
لقد اتبع الكبت معي أسلوبه التجريدي الملتوي
كلهم عملاء
الحزن يخيم علي رأسي ...ألوان تدخل في رأسي تخرج كلمات
ألبالته كانت أشبه بالكراس
هممت بالخروج من باب المسجد ...فاجأني أحدهم وقال ( مصر )
ايوه ... اللوحة ده بتعبر عن مصر
دهشت حاولت أن انظر إلي لوحتي مرة أخري ... أتأملها
امرأة عجوز تمر بجواري تقف أمام لوحتي , تحدق النظر وتقول (الله مصر ) ....بدأ الناس يلتفون حول اللوحة , تزداد أعدادهم , يتزاحمون , يتوافدون , وكأني في موسم الحج , يضعون أمامها باقات الزهور , أو أني أمام لوحة " قسم الأخوة هوراتيوس " لجاك لويس دافيد, أعظم نجاح فني علي مر التاريخ , لكنها ليست اللوحة هؤلاء البسطاء.....ما الذي أتي بهم ؟؟؟ إنها مصر, إنهم يعرفون مصر أكثر مني
ربما الكبت أيضا يعرف مصر أكثر مني !!!!!!!!!