Jun 2, 2008

امرأة من زمن العزيز


التف الليل برداء الظلام ,واغتسل باللون الأسود واحتضن هدوئه القاتل , بينما يهمس الهواء مداعبا أعواد الزينة الملتفة حول جدران الحياة , والتي اعتادوا وهم صغارا أن يرسموها في الهواء ما بين بيت وأخر علي شكل رقم ( 7 ) ورقم (8 ) , يتدلي منها قطع القطايف المحشوة بألعابهم المفضلة في تلك الأيام , وصواني من الكنافة بطعم براءتهم , والمزخرف سطحها بكلماتهم ( اهو جه ياولاد , اهو جه ياولاد ), وفانوس كبير به شمعة نقشوا علي جدارها أسمائهم ,وأشعلوها كي تنير لهم وهم يلعبون , بسذاجتهم ظنوا بقائها .
***
فكروا مرة أن يجعلوه طوال العام أحضر كل واحد منهم كيس من البلاستيك الشفاف , أخذوا يشفطون الهواء بأفواههم الصغيرة ,ثم يضخون هذا الهواء داخل الأكياس حتى ملئت ثم ربطوا أعناقها بتلك الصفوف التي كانوا يصطفون فيها خلف الإمام في صلاة التراويح , ثم كتبوا عليها
- " هنا يرقد رمضان طوال العام " .
***
مازالت تلك البراءة داخل ذاكراته , طفولته أصبحت أكثر شيء حميم له حتى بعدما تخطي الخامسة والعشرين من عمره .
داعبته براءته كعادتها فأيقظته قبيل الفجر بساعة ليتناول سحوره , كانت براءته أكثر اشتياق لتلك الأيام الماضية , لذا كانت حريصة أن تفرض نفسها عليه وتعيد الذكريات التي هي نفسها تفتقدها , كان يوصي دائما أن يوضع علي مائدة السحور قليل من الفول المدمس داخل الأكياس التي كتبوا عليها في زمن البراءة " هنا يرقد رمضان طوال العام " .
***
أطفأ المصباح , فتوقف الزمن, بدت حجرته مظلمة , توجه إلي ركن الزمن , مشمر عن همته , رافع يده إلي السماء , سطع نور في الغرفة لم يشغل نفسه بمصدر هذا النور , زفرت من عيناه الدمعات حينما سمع المبتهل يقول " أنت ملاذي في وحدتي " انخفض الصوت فجأة , اهتزت نفسه , شعر بقشعريرة في بدنه , لهث لسانه بالدعاء " رب اغفر لي وتب علي انك أنت التواب الرحيم , شعر بسمو روحه كأنه وحده في هذا الكون , بدء يردد في طمأنينة ( قد عشت أؤمن بالإله ولم أذق.... الإ أخيرا لذة الإيمان) * .
***
تفتحت عيناه مع ضوء الشمس لم تكن هي الإ بضع لحظات قد غفوت فيها عيناه , ارتدي ملابسه وذهب إلي عمله .
لم ينتبه إليها الإ عندما علا صوتها بالغناء " حبيبتي أنا من تكون , من تكون حبيبتي "
قاطعها قائلا
- صباح الخير, منذ متى وأنتي هنا .
رد ت عليه قائلة
- صباح الخير, أنا هنا منذ خمس دقائق , وجدتك مشغولا , فأنت أيضا لم تشعر بى حينما دخلت عليك المكتب .
رد عليها قائلا
- لا عليك من هذا , فهناك ما هو أهم
قالت : ماذا
قال : فترة التدريب أوشكت علي الانتهاء وأنتي ما زال مستواك ضعيف , أمامك علي الأكثر عشرة أيام وبعدها سأسلم تقريري للإدارة .
شدت علي أعصابها من الغيظ ثم هدأت من نفسها وبصوت منخفض قالت
- أليس كل شيء في يداك ,و أنت لن ترضي أن أترك عملي .
كاد أن يفقد أعصابه عندما سمع ما قالته , لكنه تمالك نفسه لأنه يعرفها جيدا , هي دائما مغرورة بجمالها , هو دائما مفتاحها السحري الذي يفتح لها كل البواب دون عناء .
قال : أظنني ساعدتك كثيرا ولم أقصر في شيء , وبكل صراحة ووضوح , نعم نحن أصحاب , ولكن في العمل لا , لن أجامل أحد .
خرجت من مكتبه وهي في منتهي العصبية , وتتمتم بكلمات غير مفهومة , ثم توجهت إلي مكان التدريب , هي تعلم أنها مستهترة طوال حياتها , هكذا كانت تقول لها أمها , لم يكن يشغل فكرها بعدما خرجت من مكتبه الإ كيف تخرج نفسها من هذا المأزق ؟
***
انكب علي عمله حتى بلغت الساعة الواحدة بعد الظهر , في صمت أخذ يتأمل لبضع ثواني ضوء الشمس بلونه الأصفر الذهبي الذي أضاء حجرة مكتبه , ذكره ذلك بالنور الأبيض الذي اقتحم عليه ليلته و أضاء حجرته المظلمة ,قاطعت هي مخيلته حينما طرقت عليه باب المكتب وقالت
- أريد مساعدتك , فهناك أمر لم أفهمه في محاضرة أمس .
انتبه إليها رافعا رأسه من بين الأفكار المبعثرة التي وضعتها مخيلته أمام عيناه وقال
- بضع دقائق وسأكون عندك .
***
أخرجت المرآة وعلبة المكياج من حقيبتها, وضعت بعض الأحمر علي الشفتين, ظللت جفونها ببعض من الأسود ,هندمت من تسريحة شعرها, فتحت زر البلوزة العلوي , اتسعت فتحة صدرها , كاد كل شيء أن يكون منه واضحا , لم تنسي أيضا أن تعطر من نفسها , حدثت نفسها وهي غارقة وسط هواجسها, أظنه سيفعل, من يستطيع أن يقاوم جمالي .
- وبينما هي تسترسل في أفكارها , فتح الباب .
ارتبكت , وضعت كل شيء في مكانه , لفت انتباهه ذلك لكنه لم يعلق .
استغرق بعض الوقت وهو يشرح لها المشكلة التي قابلتها , لكنها لم تكن معه , بدت شاردة الذهن تطيل النظر في عيناه, وهو أيضا يحاول أن يهرب من عيناها ,ثم توقف لحظة وقال
- لو سمحتي ركزي معي , فالوقت يمر , وكلنا يريد أن يفطر في بيته .
ردت عليه بنبرة جمعت فيها كل الحيل
- آسفة فأنا لست بحالة جيدة منذ صباح اليوم , فلدي أمر يشغلني .
تركها و أكمل ما كان يشرحه , ثم سكتت لحظة وقالت
- أود أن أطلب منك طلبا ,وأرجوك أن لا ترفضه .
رد في عدم اكتراث قائلا
- اطلبي .
قربت رأسها منه بعض الشيء وقالت
- أود أن تقبلني
نزلت عليه هذه الكلمة كالحجر الذي هشم رأسه فجأة , وأفقده توازنه, فدخل في حالة من الصمت , تجمد في مكانه , احمر وجهه , تصبب عرقا , قاطعت صمته قائلة
- ألا تحب أن تتذوق طعمهما .
ازداد ارتباكه ولم يخرج عن صامته, حدث نفسه قائلا
- ألا تستحي , و في نهار رمضان تطلب مني ذلك , حيلة هي تلك .
شغل نفسه لبضع ثواني في البحث عن حيلة مماثلة ثم أردف قائلا
- " أتمني ولكن ... لنجعلها بعد الفطار" .

_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ __ _ _ _ _ _ _
" من قصيدة ( رسالة في ليلة التنفيذ ) للشاعر " هاشم الرفاعي *

5 comments:

واحد من البلد دى said...

السلام عليكم
أعجبنى أسلوبك جدا يا وليد
وخصوصا فى الحيلة المماثلة التى بحث عنها بطل قصتك
دمت بكل خير

حمامة said...

جميلة جداً بجد
انت اسلوبك حلو جداً

بس بقولك ايه
عايزين الباقى

:)

أمل فتحى عزت said...

السلام عليكم
بكل الحب والاحترام
ادعوك لمتابعة الحلقة الرابعة من حكاية عمى رمزى وعم عمارة فى الحارة

تعالوا نسمع ونشوف العفاريت بتقول ايه عن الحارة
************************
يازائر الحارة لقد كتب التاريخ أسمك فى دايرة عمى رمزى لقد تشرفنا بك وسط أهل الحارة

مع خالص تحياتى

Sou said...

فيين جديدك
أنا من أشد المعجبين بمدونتك .....بس يلا عايزين جديد

حمامة said...

انت فيييييييييييين